عدن في مواجهة الحرب
الجنوب اليوم | مبارك سالمين
ربما تستطيع العلوم الاجتماعية أن تكشف ديناميات التغير الاجتماعي بصورة عامة، لكنني أعتقد بأنها ستقف حائرة عند دراسة التغيّر الإجتماعي في زمن الحرب، إذا كان موضوع الحديث مدينة عدن، وما آلت إليه أوضاعها أثناء الحرب وبعدها.
هل نزلت لعنة ما على عدن لتصبح مقتنياتها المادية والثقافية نهباً لعصابات الفيد والجنرالات وأهل الفساد من الساسة والمتحكمين؟ عدن التي كانت الدار والأهل للجميع، عدن التي كانت عبر التاريخ مصهراً للوافدين إليها فهي «تعدّنهم» وتفرض عليهم سلوكها، لكنُها تعرّضت للغدر في تاريخها الحديث، وليس مقتنياتها المادية والثقافية فقط في مهب الريح بسبب الحرب وما بعدها وحسب، بل حتى مكانتها الإقتصادية والثقافية وأهميتها الجغرافية ضاعت، وتحولت المدينة بسبب الحرب وتجارتها، من مخزن غذاء للجزيرة العربية، ومنبت فنون وثقافة وعلم، إلى مدينة تضج بالأسلحة التي تفيض عن الحرب، وتصرخ مستغيثة، وتلهج بأسى «شكراً سلمان»، «شكراً أولاد زايد»… أي إنها أصبحت تمدّ يدها للجوار، لتطعم أهلها، بعد رغد ووفرة.
إن ما آلت إليه عدن بسسب الحرب، أدى أيضاً إلى تشوش الذهنية وعطب العقل فيها. صحيح أن الحرب تستهدف اليمن كله، ولا تخفى نتائجها على أحد، فبعد ثلاث سنوات من الحرب، باتت البلاد في الواقع مقسمة إلى عدة مراكز قوى متنافسة. يحتفظ الحوثيون بالسيطرة على الشمال الغربي، بما في ذلك صنعاء. وتسيطر مكونات حكومة هادي المتحالفة مع السعودية على مأرب، شرق صنعاء. والقوى المتحالفة مع الإمارات العربية المتحدة تركز على أراضي اليمن الجنوبي السابق، والذي كان دولة مستقلة قبل العام 1990. (تقرير لمجموعة الأزمات الدولية: ثمانية أيام في عدن، المدينة المنسية…). وعلى الرغم مما تعرضت له البلاد كلها، لكن الحرب وبصورة مباشرة وجهت نصالها إلى عدن «العاصمة المؤقتة» للشرعية ولعاصفة الحزم والأمل. لقد كانت عدن الصدر الذي استقبل هذه العاصفة، وأدرك منها الريح، ولكن لا حزم ولا أمل. وأصبحت المدينة التي كانت تقتني – على سبيل المثال – أقدم قناة تلفزيون في الجزيرة العربية (تأسست في 11 سبتمبر من العام 1964، ولعبت دوراً مهماً ومؤثراً في حياة المجتمع، وكانت أول قناة تلفزيونية على مستوى الجزيرة العربية والخليج، وثالث قناة في الوطن العربي بعد مصر والعراق…) لا تملك حتى إذاعة محلية، وأصاب العطب ميناءها العالمي، وتحولت فصائل المقاومة التي انتظمت فيها تحت مظلة الهوية العدنية إلى «مليشيات»، لا يربط بينها رابط، وليست مهيأة لإدارة هذه المدينة الباسلة، بل إنها أسهمت هي الأخرى، في تدمير البنية الحقوقية والقانونية، التي كانت تظلل سكان مدينة عدن، سواء في فترة الاستعمار البريطاني أو في مرحلة حكم الحزب الإشتراكي اليمني.
وعاصفة الحزم التي كانت نتاج لصراعات الداخل، ليست تلك العفيفة الكلية الطهارة أو القبيحة المطلقة، طالما وهي قادمة من وكر التناقضات محلياً وإقليمياً ودولياً، فالداخل المحلي (جنوباً وشمالاً)، وبعد حوار «موفمبيك»، والمبادرة الخليجية «المزمّنة»، يرى فيها ما يرى، تحت مظلة كل يغنّي على ليلاه، والأقليم قال بأن لها أهداف غازل ببعضها الداخل، واحتفظ بما يتصل بالمدى الصاروخي وخلافه، تبعاً لقاعدة «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان»، والمجتمع الدولي اعتبر الصمت والكتمان دلالة الرضى، وهذه العاصفة لن تتوقف إلا عندما تتحقق أهداف الممّول (الخفي)، حتى وإن لم تف بمغازلاتها للداخل (جنوباً وشمالاً) بصورة مقنعة. لكنها عندما تتوقف، تكون قد جرفت معها كل مقتنيات المدينة، وأربكت كل أنساق الحياة والتفكير فيها، وتركتها وحيدة وعززت فيها روح الكراهية، وغاب عنها التسامح، وارتفعت فيها معدلات العنف دونما أسباب تستدعي ذلك، وتحولت من مصهر لأثنيات متنوعة ومختلفة، إلى مدينة طاردة، ووسط اجتماعي لا يعرف من أين وإلى أين.
إنها حرب عدن، حرب عليها وفيها، عدن التي أفاقت في مارس العام 2015 على شبكة أنفاق لخنقها، وحرب محلية وخارجية تهدف إلى إخراجها من التاريخ، وقد نجحت في ذلك، وأخرجتها من التاريخ، وحتى من الجغرافيا… وانعكس الأمر أيضاً على محيطها الجغرافي (أبين – لحج)، الماء والخضرة والوجه الحسن. حيث لم يعد هناك لا ماء ولا خضرة ولا وجه حسن، وابتلت تلك المناطق بجماعات التطرف والإرهاب من كل صنف ولون. لكننا ما زلنا نأمل أن تخلص النوايا وينتصر العقل على هذا العته والجنون في هذه البلاد، وتعود «عدن المبروكة» كما كانت. وما زلنا نردد معها ولها هذا البيت الشهير من قصيدة لأمية العجم للإمام الطغرائي:
أُعَلِلُ النَّفْسَ بِالآمَالِ أَرْقُبُهَا مَا أَضْيَقَ العَيْشَ لَوْلَا فُسْحَةُ الَأمَلِ.
* استاذ علم الاجتماع الثقافي – كلية الآداب جامعة عدن.