تحقيق.. محرقة شباب تعز دفاعا عن حدود السعودية
الجنوب اليوم | الجزيرة نت
أربعة أشهر تقريبا فصلت بين مغادرة الشاب “أسامة ع.ح.عجلان” منزل أسرته بأحد أحياء مدينة تعز القديمة وبين مصرعه في جبهة “البقع” بمحافظة صعدة، عندما كان يقاتل ضمن كتائب “رديفة” جندتها الرياض للدفاع عن محافظاتها الجنوبية من تسرب المقاتلين الحوثيين.
في أحد أيام شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، تلقت أسرة أسامة اتصالا من رقم سعودي يبلغها بالخبر السيئ. كان أسـامة (18 عاما) قد لقي حتفه في تلك الجبهة مع أربعـة آخرين من رفقائه بالحي والأحياء القريبة.
بناء على الاتصال غادر شقيق أسامة إلى منطقة نجران، حيث يوجد مقر القيادة السعودية لإدارة المعارك على الحدود اليمنية. استغرقت الرحلة أياما قطع خلالها قرابة 1900 كيلومتر، ليتفاجأ بأن جثة أخيه الأصغر أسامة قد دُفنت قبل وصوله بأيام.
وبدلا من الجثة، سلمته السلطات السعودية ظرفا يحتوي على مبلغ 17 ألف ريال سعودي (نحو مليون و132 ألف ريال يمني بالأسعار الرسمية وأكثر من ضعفها بأسعار السوق السوداء). كانت تلك هي قيمة روح أسامة، بينها ألفا ريال مقابل دفن الجثة، وفقا لرواية أحد الجيران في الحي، والذي تحدث للجزيرة نت بتحفظ شديد، مشترطا السرية.
“مرتزقة” تحت الحاجة
في أواخر العام 2016، استعانت المملكة السعودية بمقاتلين يمنيين بهدف تحرير وتأمين المناطق المتاخمة لحدودها الجنوبية مع اليمن، في إطار عملية عسكرية موسعة أطلق عليها معركة تحرير محافظة صعدة، التي تعتبر محضن جماعة الحوثي ومقر نشأتها ومنطلق انتشارها، وفيها يقع منفذ “البقع” الحدودي مع منطقة نجران في السعودية.
تحت ضغط الحاجة قرر أسامة، الشاب العاطل عن العمل -كما فعل آلاف مثله-، انتهاز ما اعتبرها “فرصة ثمينة” لجني المال، مغامرا بحياته لمساعدة أسرته الفقيرة. والآن، بعد وفاته أغلق هذا المصدر إلى الأبد.
وهؤلاء الذين يذهبون للقتال على الحدود السعودية على هذا النحو، ليسوا سوى مجندين “وهميين” أو على الأرجح “مقاتلين مؤقتين”، تنتهي مهمتهم بإحدى ثلاث طرق: إما الموت، وإما التخلي والعودة (الفرار)، وإما انتهاء المعركة في أي وقت. وفي كل الحالات، فهم لا يتمتعون بأي حقوق أخرى غير تلك التي تمنح لهم أثناء القتال. إذ يشبههم البعض بحال “المرتزقة”.
ويتراوح عدد اليمنيين الذين يقاتلون على الحدود السعودية ما بين 13 و15 ألف مقاتل من مختلف المحافظات اليمنية. طبقا لترجيحات مصدرين خاصين مختلفين، أحدهما يمني يتولى عملا إداريا في منطقة نجران، مرتبط بالجبهات الحدودية.
ولم يعلق مصدر عسكري بوزارة الدفاع اليمنية للجزيرة نت نفيا أو تأكيدا للعدد، لكنه رفض إطلاق وصف “المرتزقة” على المقاتلين في جبهة البقع باعتبارهم من أبناء اليمن ولم يأتوا من الخارج لقتال أبناء الدولة، وفق تعبيره.
يضيف المصدر، الذي تحدث للجزيرة نت مفضلا عدم نشر اسمه لعدم تخويله الحديث في هذه الأمور، أنه “حتى وإن لم يكن هؤلاء جنودا رسميين في الجيش اليمني، إلا أنهم يندرجون في إطار المقاومة الشعبية، ويقاتلون لتحرير أراضيهم من الانقلابيين الحوثيين بدعم من الأشقاء في السعودية التي تقود التحالف العربي في اليمن”.
وبحسب المعلومات التي جمعها موقع الجزيرة نت من مصادر متنوعة، عسكرية وإعلامية وأخرى متابعة للموضوع، وفحصها وتحليلها مع أرشيف الأخبار الإلكتروني في هذا الجانب، فقد خلصنا إلى الآتي:
في البداية، أوكلت تلك الجبهة الحدودية لقيادات ومقاتلين سلفيين ينتمون إلى المحافظات اليمنية الجنوبية يتبعون الحكومة الشرعية ويحظون بدعم من السعودية. وكلف الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي العميد هاشم السيد -وهو قيادي سلفي معروف- “بقيادة القوة باتجاه البقع كتاف بمحافظة صعدة”. وفقا لنص المذكرة المرفوعة من الرئيس اليمني إلى التحالف العربي في 5 أكتوبر/تشرين أول 2016.
انتُدبَتْ لهذه المهمة، قوات تابعة للمقاومة الشعبية الجنوبية بقيادة السلفييْن مهران القباطي، وبسام المحضار. وهي ألوية قتالية تشكلت بداية باسم المقاومة الشعبية في عدن إبان مشاركتها في دحر مقاتلي جماعة الحوثي منتصف العام 2015. وقيل إنها تحولت لاحقا بقرارات جمهورية إلى ألوية تابعة للحماية الرئاسية.
تشير المعلومات إلى أن معركة تحرير صعدة انطلقت ما بين 10 و11 أكتوبر/تشرين الأول 2016، تحت إدارة ودعم كاملين من السعودية. التي دفعت -وما زالت تدفع- رواتب المقاتلين بالعملة السعودية (أدناها 1500 ريال سعودي للجندي، وترتفع بحسب الرتبة العسكرية لتصل إلى 10 آلاف ريال سعودي).
وشكل هذا حافزا قويا للمقاتلين اليمنيين للتسابق إلى الحدود السعودية نظرا للفارق المهول في الراتب. حيث يستلم الجندي اليمني شهريا من الدولة 60 ألف ريال يمني، أي ما يوازي فقط 400 ريال سعودي تقريبا، وبنسبة 26% فقط من الراتب الذي تدفعه السعودية للجندي اليمني (تم حساب متوسط سعر صرف الريال السعودي عند 150 ريالا يمنيا. حيث يتراوح السعر حاليا بين 130 و150 ريالا. وكان تجاوز هذا العام حاجز الـ200 ريال يمني بين شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني).
وإلى جانب اللواءين الجنوبيين المذكورين، كانت هناك ألوية (شعبية) أخرى تم تجميعها من مقاتلين يمنيين من مختلف المحافظات الشمالية، على رأسها لواء النخبة ولواء فتح، إلى جانب لواء العروبة. ولاحقا تبعها تشكيل ألوية قتالية أخرى، بينها اللواء 102، واللواء 103 مشاة (تم تعديله لاحقا إلى اللواء 143 مشاة)، واللواءان التاسع والعاشر مشاة، ولواء الحزم، وغيرها.
وآلت قيادة جبهات القتال على الحدود السعودية حاليا إلى هذه الألوية، بعد انسحاب لواءي القباطي (9 فبراير/ شباط 2017) والمحضار أواخر العام نفسه.
مندوب سعودي في تعز
منذ انسحاب اللواءين الجنوبيين تحديدا، تركز اهتمام السعوديين أكثر على استقطاب المقاتلين من المحافظات الشمالية، لتعويض النقص في القوة البشرية. وأصبحت محافظة تعز جنوبي غربي اليمن (256 كلم جنوب صنعاء)، واحدة من أكثر المحافظات التي خضعت لاستقطاب المقاتلين غير الرسميين.
ويرجع بعض المراقبين عملية استقطاب وتجنيد الشباب في تعز إلى مطلع العام 2017، حيث بدأت حينها بوتيرة بطيئة، وغالبا ما كنت تقتصر على تزكية مقاتلين سلفيين. لكن مع انسحاب لواء المحضار من البقع نهاية العام الماضي بدأت وتيرة الاستقطاب تتصاعد في تعز بشكل أكبر، تحت ضغط الحاجة لتغطية النقص العددي للمقاتلين.
وأرجع مصدر أمني في تعز بداية عملية استقطاب المقاتلين بالمحافظة إلى ضابط سعودي اسمه (م. ع. أ)، وهو من أصل يمني لكنه غادر قديما إلى السعودية للعمل، وأصبح حاليا برتبة رائد في الجيش السعودي، ويتولى منصب مدير دائرة الإمداد في أحد الألوية المقاتلة على الحدود.
وبحسب المصدر، حضر الضابط المذكور إلى تعز مع نهاية العام 2017 تقريبا في مهمة رسمية لترتيب عملية استقطاب المقاتلين إلى الحدود السعودية، حيث شكلت له المدينة مخزنا ثريا من المقاتلين المتمرسين والراغبين في تحسين أحوالهم المادية المتعبة بسبب الحرب والحصار وقلة فرص العمل، الأمر الذي سهّل كثيرا من استقطابهم.
استأجر (م. ع. أ) منزلا مؤقتا في حي المسبح (وسط المدينة)، وأنشأ شبكة “سماسرة”، يعملون بالنيابة عنه ولمصلحته مقابل 500 ريال سعودي عن كل فرد يتم استقطابه وإرساله إلى الحدود. وبعد عام تقريبا انتبهت له أعين الأمن، فأحس بذلك وغادر المدينة عائدا إلى السعودية بعد أن فتح الأبواب وأصبح تواصله مع هذه الشبكة عبر الاتصالات الهاتفية أو بالبريد الإلكتروني، أو التراسل عبر برنامج “واتساب”.
وتؤكد المعلومات التي حصلت عليها الجزيرة نت، أن الضابط المذكور التقى أكثر من مرة بالقيادي السلفي المعروف عادل عبده فارع، المكنى بـ”أبو العباس”، قائد كتائب أبو العباس في تعز. وكوّن بالتنسيق معه فرق استقطاب “سلفية” في المدينة القديمة والحي الجمهوري.
لكن العملية خرجت عن السيطرة مؤخرا، ولم تعد تقتصر على استقطاب شباب التيار السلفي، بل توسعت أكثر لتشمل كل من يرغب في القتال على الحدود لجني المال، خصوصا مع اشتعال المعارك الحدودية والحاجة الملحة لتعويض المقاتلين
شبكات سماسرة
وبعد البحث عن سيرة هذا الشخص، يتبين أنه كان من “بلطجية” الرئيس الراحل علي عبد الله صالح إبان ثورة فبراير/شباط 2011. واتهم بعمليات “بلطجة” عدة ضد المتظاهرين في تعز. وأثناء الحرب الحوثية الأخيرة تحوّل إلى شيخ “سلفي”! وظهر مؤخرا في الوديعة مرتديا بزة عسكرية برتبة عقيد، يعتقد أنها إحدى الرتب “الوهمية” التي يمنحها الجانب السعودي للمقاتلين معه على الحدود.
كما أصبح سائقو حافلات نقل المجندين إلى منفذ الوديعة الحدودي يعملون سماسرة هم أنفسهم، كما يقول “عارف”، وأضحت لديهم شبكات في الأحياء والقرى يدفعون لهم 100 ريال سعودي عن الشخص الواحد -من 500 ريال التي تُدفع لهم- إلى جانب 50 ألف ريال يمني يحصلون عليها من السعوديين عن الفرد مقابل التوصيل ومصاريف الرحلة إلى منفذ الوديعة.
ويؤكد مقاتلون عائدون من البقع وآخرون ما زالوا هناك (تم التواصل معهم إلكترونيا) للجزيرة نت أن السعودية تمنح رتبا عسكرية، بحسب توصيات الأشخاص المعتمدين الذين يرسلونهم. وقال (ع. ن) -أحد المجندين في اللواء 102 بالبقع ويوجد حاليا بتعز- للجزيرة نت “يوزع السعوديون الرتب كيفما اتفق وبالوساطات السهلة والتوصيات”، مشيرا إلى أن “الجميع يدرك أنها رتب فخرية ووهمية، إلا أنهم يسعون خلفها من أجل الحصول على زيادة في الراتب الشهري”.
فرزة خاصة بحافلات نقل الشباب من منطقة النشمة بتعز إلى الحدود السعودية-اليمنية
كوابيس بين الأحلام
في 28 أكتوبر/تشرين الأول الماضي كانت حافلة مكتظة بـ19 شابا تغادر حي هاشم (الضبوعة)، متوجهة صوب منفذ الوديعة. ويؤكد “ج. الشرعبي” -مدرس من سكان الحي- للجزيرة نت أن هذه الدفعة لم تكن هي الأولى من شباب الحي الذين يتوجهون للقتال في البقع تحت إلحاح وضغط الحاجة للمال، مشيرا إلى أن “نسبة كبيرة من الذين يذهبون هناك تتراوح أعمارهم بين 18 و22 سنة”.
في 29 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كتب الصحفي عبد الرحمن الشوافي على صفحته في فيسبوك محذرا “البقع في طريقها إلى أن تصبح هولوكوست شباب تعز خلال هذه الفترة”. وتساءل “من المسؤول عن عمليات التجنيد؟ ومن يقف خلف إرسال شباب تعز إلى المحرقة؟ وأين هو دور الجهات الأمنية والعسكرية؟”.
حين تسأل عن أكثر المناطق في تعز والتي يُستنزف شبابها في “محرقة البقع”، تجد كل شخص يعتقد أن منطقته تحوز على النسبة الكبرى منهم! والحال نفسه أيضا عند محاولة تحديد المنطقة التي فقدت نسبة كبرى من الضحايا! ويعكس ذلك حقيقة مفادها أن هناك أعدادا كبيرة تغادر إلى البقع، وأخرى لا تعود.
ويتفق معظم من التقينا بهم على أن من يذهبون إلى تلك المحرقة معظمهم -إن لم يكن جميعهم- بحاجة إلى المال لتحسين ظروفهم الاقتصادية. ونجح البعض في تحقيق ذلك، في حين البعض ما زال يناضل، وسقط آخرون في بداية مشوارهم، أو في منتصف “الحلم”.
ويستشهد “هاشم الصبري” بتجربة شباب في قريته بمديرية “صبر الأقروض”، عادوا بعد ستة أشهر أو عام من القتال، وبنوا منازل في القرية، لكنهم عادوا إلى الجبهة ليحصلوا على المزيد، مضيفا أنها “لعبة خطرة! فربما أهدروا فرصة سانحة في البقاء على قيد الحياة، قد تكون هي الأخيرة لإمكانية العودة مجددا إلى الديار”.
وحذر الصحفي أحمد الباشا أبناء تعز بالقول “من يذهب إلى البقع ربما لا يعود حتى جثة”! مضيفا في منشور له في فيسبوك أن “البعض لا يصل خبر وفاته إلى أهله على الأقل.. ينقطع التواصل فقط.. إلى متى؟”.
وتحدث “ج. الشرعبي” -من حارة الضبوعة- للجزيرة نت عن مأساة شاب من أبناء الحي غادر إلى البقع قبل أشهر، وتعرض لإصابة في رأسه ولا يزال في أحد مستشفيات نجران مصابا بشلل شبه كامل. وأكد الجندي في اللواء 102 (ع. ن.) أن مستشفيات جازان تكتظ بعشرات الجرحى من الشباب المقاتلين في الحدود السعودية.
وينقل “عرفات الصبري” -وهو أحد الناشطين المهتمين بهذه القضية على صفحات التواصل الاجتماعي- قصة ثلاثة شبان من أسرة واحدة من أبناء مديرية “سامع” جنوبي تعز، لقوا حتفهم يوم 31 أكتوبر/تشرين الأول الماضي في جبهة “علب” على الحدود السعودية، بعد ثلاثة أسابيع فقط من مغادرتهم تعز ووصولهم إلى الجبهة.
وفي إحصائية خاصة رصدتها الجزيرة نت، هناك ما لا يقل عن 20 شابا من أبناء تعز قتلوا على جبهات الحدود السعودية في خمسة أيام متفرقة، توزعت على النصف الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2018.
ويعتقد هاشم الصبري، الذي ينشر على صفحته الشخصية ما تصله من أنباء الوفيات على جبهات الحدود، أن أعداد الضحايا من أبناء تعز في “محرقة البقع” كبيرة جدا، لكن “لا سبيل لنا لمعرفة الأرقام الحقيقية أو التقريبية على الأقل في ظل كل هذا التكتم الحاصل من قبل الجهات الرسمية المعنية”.
وأكد للجزيرة نت أن معظم ما ينشره في هذا الجانب يعتمد فيه على مجهوده الشخصي في تتبع وإحصاء ما ينشر من قبل أسر الضحايا أنفسها أو مقربين منها على صفحات فيسبوك. والواقع -كما يقول- أن نسبة كبيرة من الأسر لا تنشر مثل هذه الأخبار.
وعن حجم الضحايا المتزايد، كتب الصحفي فواز الحمادي على صفحته في فيسبوك يوم 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2018 “ستنتهي الحرب، وسيكون عدد الشهداء من أبناء تعز الذين استشهدوا في الجبهات الأخرى، خاصة جبهات الحدود، يفوق عدد الشهداء داخل المحافظة أضعافا مضاعفة”.
ويتساءل كثيرون لماذا يتم نقل المقاتلين من تعز كل هذه المسافة بينما مدينتهم لم تحرر بعد، والمقاومة فيها لا تتلقى دعما معتبرا من التحالف منذ عامين تقريبا؟
يرى الخبير اليمني في الشؤون العسكرية والإستراتيجية علي الذهب أنه يجب النظر إلى تعز باعتبارها “هدفا مؤجلا للتحالف، قبل أن تكون هدفا للحوثيين.. ولذلك نلحظ أن العمليات التي دارت على امتداد الساحل الغربي، عبرت مناطق تابعة لتعز دون أن تعير أدنى اهتمام للقتال الضاري في مركز المحافظة منذ اندلاع الحرب عام 2015”.
ويضيف للجزيرة نت أن “خطة التحالف تجاه تعز تسير في اتجاهين. الأول: استنزاف القوى المناوئة للحوثيين في معارك لا منتصر فيها، والثاني إفراغ تعز من طاقتها المقاتلة الشابة عبر اجتذاب الكثير من المقاتلين خارج حدودها، باستخدام وسائل كثيرة، مثل تأخير مرتبات المقاتلين في تعز، وإغراء المقاتلين خارجها بمرتبات مالية مجزية”.
ويخلص الذهب إلى نتيجة مؤداها أن “تعز ستصبح بعد ذلك في متناول التحالف عن طريق القوى الموالية له فيها، أو قوى أخرى يجرى إعدادها”، في إشارة إلى القوات التابعة لطارق محمد عبد الله صالح نجل شقيق الرئيس اليمني الراحل (علي صالح) الموجود حاليا في مدينة المخأ الساحلية التابعة لتعز (غربا)، مع قواته المدعومة من دولة الإمارات المسيطرة على المخأ منذ مطلع 2017. ويرفض طارق حتى الآن الاعتراف بشرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي.
وكان أبناء تعز خرجوا منتصف أبريل/نيسان الماضي في مظاهرات حاشدة رفضا لتسليم طارق قيادة تحرير المحافظة، على خلفية تسريبات بوجود اتفاق بذلك بين المحافظ ودولة الإمارات.
غموض في آلية التعامل
في الوقت الذي تحولت فيه إلى قضية رأي عام مثيرة للجدل، تكتنف تفاصيل تشكيل وعمل الألوية المقاتلة على الحدود السعودية، وطريقة التعامل مع المقاتلين وحقوقهم، سحابة من الغموض.
لم يأت الغموض فقط جراء التكتم والسرية التي تحاط بها العملية من الجانبين السعودي واليمني الرسميين، بل أيضا لأن الجميع تقريبا يتعاملون مع الأمر بحساسية شديدة خشية أن يفقدوا مصالحهم، أو خشية أن يتعرضوا للأذى. كما ينظر آخرون إلى الأمر باعتباره أسرارا عسكرية، أو محاولة تشويه للشرعية والتحالف.
واعترف مصدر عسكري مسؤول، عمل في مكتب رئيس هيئة الأركان السابق اللواء طاهر العقيلي قبل تغييره مؤخرا، بوجود مقاتلين شعبيين (غير نظاميين) يقاتلون في الحدود السعودية اليمنية، إلا أنه قلل من حجم هذه المشكلة. (أخذت هذه التصريحات قبل أسبوعين من تغيير رئيس هيئة الأركان السابق مطلع نوفمبر/تشرين الثاني الماضي).
وأوضح المصدر، الذي اشترط السرية في حديثه للجزيرة نت لمناقشته أسرار ذات طبيعة عسكرية، أن معارك الحدود لا تقتصر فقط -كما هو شائع- على أولئك المقاتلين الذين يتم استقدامهم بطرق غير رسمية وخارج إطار المؤسسة العسكرية، بل هناك ألوية رسمية تابعة للجيش اليمني تقاتل في الحدود، ومعظم المقاتلين غير الرسميين ينضوون في إطار تلك الألوية الرسمية.
وبعد البحث والاستقصاء، وجدنا أن هناك ألوية أخرى حكومية تشارك في القتال، بينها ألوية تابعة لحرس الحدود اليمني. وأكد المصدر أيضا أن الضباط الذين يتولون قيادة تلك الألوية “تم تعيينهم بقرارات رسمية من قبل رئيس الجمهورية”.
ونشرت مواقع إلكترونية يمنية بعض تلك القرارات الجمهورية، إلا أنه بعد البحث للتأكد منها لم نجدها في الموقع الرسمي لرئيس الجمهورية، الذي ينشر كل قرارات الرئيس أولا بأول، وكذلك موقع وكالة الأنباء اليمنية (سبأ).
على سبيل المثال، قرار تعديل اسم اللواء 103 مشاة (يقاتل بالحدود السعودية) إلى اللواء 143 مشاة وتعيين العميد ذياب القبلي نمران قائدا له. وقرار تعيين العميد ياسر المعبري قائدا للواء 102، وهي قرارات تم تداولها إخباريا على نطاق واسع، لكنها غير موجودة رسميا ضمن قرارات رئيس الجمهورية المنشورة على صفحته.
وعن آلية العمل بين الجانبين اليمني والسعودي، قال المصدر إن “الجانب السعودي هو المسؤول عن التعامل المباشر مع تلك الألوية، وتستلم رواتبها منه مباشرة، لكن يوجد ارتباط عملياتي روتيني شكلي مع قيادة الجيش اليمني.
وتتلقى الألوية المقاتلة في الحدود التعليمات والبرقيات العامة من قيادة الجيش اليمني، مثلهم باقي المناطق، لكن إدارة العمليات وتنفيذ الخطط والاحتياجات يتم التنسيق فيها مباشرة مع التحالف”.
ويضيف المصدر أنه قد تكون هناك مشكلة تتعلق بطريقة حشد المقاتلين إلى جبهات الحدود بطريقة غير قانونية عبر سماسرة منتفعين، وبعيدا عن أجهزة الجيش الرسمي، “حيث من المفترض أن يتم ذلك عبره وبطرق قانونية”، لكنها “جزئية ولا تمثل مشكلة كبيرة بالنسبة لقيادة الجيش”
وشكا مجندون يقاتلون في الحدود السعودية من تعرضهم “للخديعة”. ونقل للجزيرة نت، مصدر طلب عدم نشر اسمه، عن مقاتلين اثنين عادا قبل أشهر إلى تعز، تأكيدهما أنهما خدعا حين ذهبا ضمن مجموعة إلى البقع على أساس أن يتم ترقيمهما رسميا في الجيش اليمني لضمان حقوقهما المستقبلية، “لكنهما اكتشفا لاحقا أن الأمر مجرد ترقيم وهمي في الكشوفات السعودية فقط”.
وحصلت الجزيرة نت على صور لبطاقات مجندين يتبعون ألوية تقاتل في الحدود، مصدّرة باسم “بطائق تعريفية”. وهي تسمية من الواضح أنها ليست عسكرية رسمية. فضلا عن أنها لا تحمل ختم وزارة الدفاع اليمنية، رغم أن اسم الوزارة ورئاسة هيئة الأركان يظهران ضمن ترويسة بعض منها.
يظهر ذلك في النسخة المرفقة باسم الجندي “حسام جمال علي قائد”، الذي يتبع اللواء 102 قوات خاصة (جبهة العبر الحدودية). وكذلك بطاقة أخرى مصدرة بالتسمية نفسها (بطاقة تعريفية) صادرة عن اللواء العاشر، وتم تمويه تفاصيلها بحسب طلب المرسل.
ويتضح من اختلاف البطاقتين شكلا ومضمونا أن عملية إصدار البطاقات تتم بعشوائية وحسب ما يراه قائد اللواء، بما يؤكد أنها غير رسمية، كما أن الرقم العسكري الوارد فيها غير حقيقي، بل لغرض التعريف والإحصاء الداخلي فقط.
وتتضارب تصريحات مسؤولين في الجيش اليمني بخصوص طبيعة وشكل التعامل مع أولئك المجندين للقتال في الحدود، والقادمين من خارج الأطر العسكرية.
وأكد مصدر في قيادة الجيش بتعز أنهم لا يعتبرون مجندين رسميين في الجيش اليمني وليس لديهم أي حقوق لاحقة من الجيش أو من السعوديين، مضيفا أن “هذا ما يجب التنبيه له، ويجب أن يعرفه الجميع بكل وضوح وشفافية”.
وفي بيان مشترك بتاريخ 14 أكتوبر/تشرين الأول 2018 حذرت “قيادة محور تعز وإدارة أمن شرطة المحافظة من أي عمليات تجنيد خارج إطار المؤسستين العسكرية والأمنية، كونها تأتي خارج إطار الشرعية”. وأهابتا بالمواطنين “الإبلاغ عن أي عمليات تجنيد خارج إطار الجيش الوطني، وعن القائمين عليها، كونها جريمة يعاقب عليها القانون”.
وليس لأسر من يقتلون في الحدود السعودية أي حقوق دائمة لأبنائهم كشهداء واجب في الجيش. وهو ما أكده “هاشم” من مديرية صبر الأقروض في تعز، على الأقل بالنسبة لمن يعرفهم من القتلى في منطقته، حيث تكتفي السعودية بمنحهم مبلغا مقطوعا بعد الوفاة.
هذه المبالغ تخضع بدورها للتلاعب أحيانا من قبل بعض قادة الألوية أو الكتائب التي ينتمي إليها المقاتلون. بحسب هاشم، الذي يتهم بعض القادة “بدفع الشباب إلى الموت كي يستلموا تعويضات الوفاة التي تصل إلى 20 ألف ريال سعودي، ولا يسلمون منها سوى خمسة آلاف لأسرة القتيل، كما حدث مع أحد الشهداء من أسرتي”.
وتشير المعلومات التي حصلنا عليها بهذا الخصوص إلى وجود تفاوت، من حين إلى آخر، في حجم المبلغ المقدم من الجانب السعودي لأسر من يقتلون في المعارك الحدودية، ويبلغ التفاوت أحيانا ما بين 5000 و20 ألف ريال سعودي.
الأهداف السعودية
بالنسبة للمتابعين لهذا الموضوع، يبقى السؤال الأهم: لماذا تلجأ السعودية إلى هذا “التجنيد الوهمي” رغم أنها قادرة على التنسيق مع الجانب اليمني لانتداب ألوية عسكرية رسمية للقتال على الحدود؟
يقول مصدر عسكري في تعز إنه لا يملك إجابة رسمية، في حين رجح مصدرنا العسكري في مكتب قيادة الأركان أن الأمر “قد يعود إلى رغبة السعوديين في حشد أكبر عدد ممكن من المقاتلين بهذه الطريقة لتأمين حدودهم بشكل سريع”.
هذا الترجيح يأخذ في الاعتبار أن تقدم الحوثيين مسافات داخل الحد الجنوبي للسعودية لم يكن مجرد “مزاعم”، لا سيما وأن هذا الأمر كان قد بدأ يشكل قلقا لدى الرأي العام السعودي، وفقا لتقارير صحفية.
وبحسب المصدر، فإن السعودية بهذه الطريقة نجحت فعلا في تأمين تلك المناطق منذ مدة عن طريق المقاتلين اليمنيين، مضيفا أنها حاليا ربما تسعى إلى توسيع طوق الأمان لحدودها مسافات كبيرة من خلال نقل عملياتها داخل محافظة صعدة نفسها.
وأرجع أستاذ العلوم السياسية في جامعة الحديدة الدكتور فيصل الحذيفي سبب استعانة السعودية بمقاتلين يمنيين “بطريقة غير قانونية”، إلى أنها في حقيقة الأمر “تتجنب الاعتراف بالعجز العسكري الذي منيت به خلال السنوات الأربع من الحرب تجاه مليشيات غير نظامية.. وهي الدولة التي تمتلك فائض القوة والتقنية والعتاد، لذلك لجأت، بصفة غير رسمية إلى استغلال حاجة اليمنيين، كون ذلك هو الأنسب لها ماديا ومعنويا”.
ويعتقد فيصل -وفق حديثه للجزيرة نت- أن فكرة إبرام اتفاقية عسكرية مع الجيش اليمني ستترتب عنها أعباء مادية باهظة الكلفة، علاوة على أن مثل ذلك من شأنه أن يمنح الجانب اليمني أفضلية على حسابها، وهي لا ترغب بحدوث ذلك، وفق تقديره.
أما الخبير اليمني في الشؤون العسكرية والإستراتيجية علي الذهب فقدّم توصيفا آخر للمعارك التي تخوضها السعودية على حدودها بمقاتلين يمنيين خارج إطار الدولة. فهي في نظره “تندرج في إطار توصيفات قتالية من قبيل: “إستراتيجية إراقة الدم”، وإستراتيجية الاستنزاف والإنهاك..”، مضيفا أن هذه الإستراتيجيات اتبعت من قبل التحالف في عدد من الجبهات مثل نهم وتعز والبيضاء وغيرها.
وحذر الذهب من أن السعودية “قد تستغل دافعية الانتقام من الحوثيين بالزج بالكثير من الشباب اليمني إلى محارق لا نهاية لها، لأن السيناريو المرسوم أو الإستراتيجية المشار إليها سلفا، لا تستهدف إحداث تحول على الأرض بقدر سعيها إلى إدامة القتال من أجل استنزاف الطرفين”.
ويتفق الذهب مع سلفه الأكاديمي الحذيفي على أن “القيادة السعودية ترغب في صون مقاتليها ما دام البديل موجودا ولا يكلف سوى مبالغ زهيدة، قياسا بما يعطونه لمقاتلين من جيوش رسمية أخرى تقاتل معهم”.