هادي الرجل الذي احتار الناس في أمره أغبي أم ذكي ؟ هو هادي ذاته الذي تحالف مع الكل وقضى على الجميع ، بطريقة تبدو مستحيلة ، ﻻتصدق كثير من فصولها ، وﻻ تهديك إليها إﻻ الأحداث كشواهد عصر على وقوعها .
صعد هادي إلى الحكم ، في لحظة غريبة ونادرة كتلك التي تشبه ظهور المذنبات الكونية ؛ كمذنب هالي الذي ﻻيظهر إﻻ كل 76سنة ، إﻻ أنه رغم ظهوره العابر ، ورغم طول المسافة الزمنية بين الظهور السابق واللاحق ، إﻻ أن هذه اللحظة التاريخية توثق بدقة وعناية .
جلس هادي وسط الثعابين ، يهشها تاره عن نفسه بيده ، وتارة يستعين بثعبان أخر من بينها يكفيه مؤنة القيام بهذا العمل ، مقابل ضمان هادي للثعبان بالمكوث أطول فترة قريبا من رجل الكرسي التي يجلس عليه هادي نفسه … تعلم هادي من مسرحية الرقص على رؤوس الثعابين ، وحفظ كثير من فصولها ، والتصقت كثير من أحداثها في ذاكرته ، لم يدر في خلد هادي أن أمواج الأقدار ستلقه على كرسي الحاوي ، وسط مزرعة الثعابين .
استلم هادي الخرقة من الحاوي ، وكأنه مصارع يتأهب للنزول إلى حلبة مصارعة ، كما يفعل المصارعون الأسبان في لعبة مصارعة الثيران التي عرفت بها حلبات مدريد الشهيرة .
نزل هادي إلى حلبة الصراع ، متسلحا ببراعة الحاوي ، لافتقاره إلى قوة المصارع ، وخفة الحركة ، مستعينا بماعلق في ذاكرته من فصول لعبة الرقص على روؤس الثعابين ، فاختار طريقة حاوي الثعابين ، لمنازلة الأثوار الهائجة التي تحيط به من كل الجهات كإحاطة السوار بالمعصم .
بدأ العجوز هادي منازلة الثيران ثورا ثورا ، معتمدا على كتم أنفاس ضعفه ، وطول صبره ، لأنه ﻻيملك ما كان يملكه سلفه من القوة … اهتدى هادي إلى نقطة ضعفة بسرعة ، وسد مكامن الخلل ، فأدخل تعديلا طفيفا على قوانيين لعبة المصارعة مع الاحتفاظ بأصل اللعبة من حيث شكل النزال ، وتسجيل النقاط، وقواعد المصارعة ، وهو الاستعانة ببعض الأثوار لمساعدته عند اختراقه من مكامن ضعفه التي كان يشكو منها هادي أحيانا صراحة ، حفظ هذا التعديل الذي أدخله هادي على اللعبة له الاستمرار متجاوز الوقت الأصلي والإضافي للمنازلة بنجاح .
أنتهى الوقت الأصلي للعبة ، والثيران المساندة لاتزال مستمرة في النزال إلى جانب هادي ، انهك طول النزال جميع الثيران المنازلة والمساندة ، واكتشفت أن وقت المباراة أنتهى ، والوقت الإضافي أيضا ، واكتشفت شيئا ثالثا خطيرا أنها ﻻتلعب على ساعة حكم بل تلعب على ساعة هادي نفسه .
هاجت جميع أثوار الحلبة ، وهجمت هجوم رجل واحد على هادي ، فوجد نفسه أمام جميع من في الحلبة ، بسرعة رمى الخرفة التي سلمها إياه الحاوي ، كي يدفع شبح الهزيمة ، أو الموت عن نفسها ، توقفت جميع الثيران ، وأعادة قرونها إلى أغمادها ، وتسابقت الأثوار على الخرقة لا لتأخذها لنفسها ، ولكن لتعيدها إلى هادي ، وهادي يعيدها إليها ! أنهك الوقت العجوز الثمانيني هادي ، وبدت أثاره ظاهرة على قسمات وجهه بوضوح ، حتى قيل نفذ مخزون هادي من الصبر، الذي يفوق مخزون الخليج وفنزويلا من النفط .
ظلت الخرقة مرمية في زاوية من زوايا الحلبة ، فترة ليست بالقصيرة ، هادي وسط الحلبة تحيط به الثيران من كل الجهات ، لم تأخذ الخرقة ، ولم يقبلها هو ، وظلت مرمية أقرب إلى خصومه منها إلى هادي .
جلس هادي منتظرا الخروج من الحلبة ، ولكن من البوابة التي دخل منها ، فقواه ﻻ تؤهله للنفاذ من أسوار الحلبة ، فالرجل بلغ من الكبر عتيا … بينما عروض الثيران تتوالى على هادي ، والوفود تتقاطر على الحلبة لإقناع هادي بأخذ الخرقة مرة أخرى ، فجأة على حين غفلة هرب هادي ، ونفذ من الحلبة ، وﻻتسأل كيف كان النفاذ ؟ فالنفاذ معلوم ، والكيف مجهول ، لم ينفض غبار أسراره إلى اليوم .
هادي في عدن ….ليجد الرجل نفسه في حلبة أضيق من تلك التي خرج منها ، زادت الأخرى على الأولى أن كل من فيها ﻻيعرفون الخطوط الحمراء ، التي كان يأخذ تحت ظلالها بين الجولة والأخرى استراحة محارب كلما أنهكه الصراع ، فاختار الغموض ، والكتمان مع ثيران الحلبة الأخرى ، فتحول هادي إلى بحر يصعب الوصول إلى قراره ، وﻻيدري ما تحويه أعماقه ، غازل الجميع ، للقضاء على الجميع ، للوصول إلى هدفه الذي يعلمه الجميع ، ويتجاهله الجميع في نفس الوقت .
الحظ ، والصبر ، والغموض، حبال النجاة التي كان يفزع إليها المارشال العجوز كلما تناوشته قرون ثيران الحلبتين . قصة حاكم متنقلا بين مدينين ، يطوي المسافات هربا من الأولى إلى الأخرى ، وهربا من الأخرى إلى الأولى ، رغم اختلاف غايات أهلهما ، وتباين مواقفهما ، قصة أبرز فصولها سؤال كيف استطاع الرجل الثمانيني الذي أفنى جل عمره في ثكنات الجيوش ، جمع الخصوم في صعيد واحد لا يجمع بينهما شيئ غيره .