مقبل… أبجدية الرفض وأيقونة الصبر
الجنوب اليوم | شخصيات جنوبية
عصام واصل
«سلام مني للرجال المقنفة
ذي ما يوطيها سوى رب العباد
الحزب علمنا أصول المعرفة
والصبر علمنا علي صالح عباد».
قبل أكثر من 10 سنوات قالها الشاعر والمحامي يحيى غالب أحمد، في المناضل الوطني الجسور علي صالح عباد (مقبل)، الذي عُرف بوطنيته وترفّعه على المصالح الشخصية وصغائر الأمور، كما عُرف بصبره وقوة تحمله وجلده وحنكته في التعامل مع الأزمات السياسية والحزبية والوطنية أيضاً، إذ خرج بـ«الحزب الاشتراكي» اليمني من أشد مراحله صعوبة، وأعتاها قسوة، لا سيما بعد حرب صيف 94، حتى أنه عرف «بصفته الاسم الحركي للصبر والمكابرة والصمود» بحسب وصف الأديب فتحي أبو النصر.
لقد استطاع «مقبل» أن يجسد دوراً نضاليّاً شريفاً في ظل تسلق وتعملق كل ما يخالف الشرف والوطنية، فأصبح شخصية ذات إجماع وطني شمالاً وجنوباً وملهماً ونزيهاً، وظلّ دوماً متشبّثاً بالحرّية والصلابة والثبات، فتكسرت على يديه المغريات، وظل منحازاً للناس والشعب، كما ظل الرجل المبدئي الذي لا يحيد، فعُرف بقوة طرحه، وجديته، ورفضه، ومناهضته لكل ما يمثل ديكتاتورية أو تسلطاً، حتى أنه عرف بمقارعته لنظام صالح، بل وبسخريته من صالح شخصياً ومن نظامه وجهاً لوجه في الوقت الذي فضل معظم المناوئين اللوذ بالصمت إيثاراً للسلامة في زمن الاغتيالات الممنهجة وضيق الزنازين.
مقبل الحزبي العتيد
عقب حرب صيف 94 انتشى علي صالح بانتصاره على الحزب «الاشتراكي» وعمل بكل ثقله على تفكيكه وتقويض أركانه، لكنه اصطدم بـ«مقبل» الرجل الصلب الذي استطاع أن يُخرج بالحزب إلى برِّ الأمان من جديد.
تم انتخابه في 94 أميناً عامّاً للحزب، فاستطاع أن يبقي عليه متماسكاً لا يخضع لجهة، ورفض تحويله إلى حديقة خلفية للحزب الحاكم. ويؤكد ذلك الكاتب معن دمّاج في حديث خاص مع «العربي» بقوله: «عرفت مقبل في تلك الأيام السوداء التي أعقبت حرب صيف 94، يوم أن لعب الدور الأبرز عن محاولة علي صالح ونظامه كسر إرادة الحزب الاشتراكي اليمني المهزوم في تلك الحرب، وتحويله إلى شاهد زور في الحفلة التنكرية التي تحولت إليها الحياة السياسية في البلاد». ويضيف دمّاج: «منذ انتخابه في سبتمبر عام 1994 كأمين للجنة المركزية للحزب، لعب الدور الأبرز في المحافظة على استقلال الحزب، وإن كان لم يحرز النجاح نفسه في استعادة فعاليته». وأشار دمّاج إلى أن «الضغوطات الأصعب على مقبل لم تكن وقتها هي مواجهة تعسف النظام بقدر ما كانت محاولة الإبقاء على الحزب موحداً حتى لو كان ذلك على حساب استعادة الحيوية والفعالية، والحقيقة أن كل قيادات الحزب وقتها ذهبت نحو محاولة إصلاح الفضاء العام، وما كان يسميه الشهيد جار الله عمر تسوية أرض الملعب السياسي لتقديرها ربما أن ذلك أسهل من إصلاح الحزب داخليا».
جسارة
إن جسارة عبّاد في تولي مهمة الإبقاء على الحزب «الاشتراكي» ورفضه لاجتثاثه أو تحويله عن مساره لعمل يحسب له، في الوقت الذي تخلى فيه كثيرون عن دورهم الوطني والنضالي لمصالح شخصية أو هرباً من البطش، أما هو فلم يكتفِ بعدم الصمت بل رفَضَ نتائج الحرب، كما رفض إلغاء الشراكة، وطالب بضرورة إعادة الوطن –كل الوطن- إلى مساره الصحيح، وذلك ما يؤكده الناشط عادل علوي بقوله: «بعد حرب 1994، عندما انقسم الجنوبيون ما بين هارب عبر البحر، وهارب إلى حضن نظام علي عبدالله صالح، وملتزم بالصمت، كان هناك فارس قاد في سبتمبر أول شرارة جنوبية لحركة الرفض لنتائج تلك الحرب، هذا الفارس هو علي صالح عباد مقبل، الذي وضع اللبنات الأولى لما سمى فيما بعد بالحراك السلمي الجنوبي المنظّم الذي أنطلق في 7/7/2007».
إن جسارته لم تتوقف عند حفاظه على الحزب «الاشتراكي» فحسب، بل ناصر المبعدين عن وظائفهم ومن تمت مقاعدتهم قسرياً، وأشعل شرارة المطالب الحقوقية التي تحولت فيما بعد إلى رفض جنوبي واسع للتهميش، لقد وقف مع حقوق الناس المظلومين، وطالب باحترام إنسانيتهم، وفي ذلك يؤكد المناضل حسن البيشي أحد الذين تم إقصاؤهم عن أعمالهم من قبل نظام صالح، في حديث له مع «العربي» قائلاً: «مهما قلت فلن أوفي هذه الهامة الوطنية حقها، فمن منا لا يعرف المناضل الجسور مقبل؟، يكفينا وقوفه إلى جانبنا نحن المتقاعدين العسكريين قسراً، ويكفينا فخراً قيادته لنا حينما تقدم صفوفنا لاقتحام ساحة العروض يوم 7/7/2007».
ويضيف البيشي: «نحن المسرحين قسراً يؤلمنا جدّاً أن نراه اليوم على فراش المرض، يتألم ويعاني من كثير من الأمراض التي تفتك به وهو في هذا السن، ويؤلمنا أكثر إهماله من قبل من يعبثون بالبلاد اليوم، ولا يسعني هنا إلا أن أناشد بأعلى صوتي رفاق دربه بأن يمدوا له يد العون والمساعدة ويعملوا على نقله إلى الخارج للعلاج بأسرع وقت ممكن».
أيقونة
إن مواقفه تؤكد أنه لم يكن مِلْكَاً لفرد أو جماعة أو حزب، لقد كان بحسب وصف فتحي أبو النصر في حديثه الخاص مع «العربي»، «ملكاً لليمنيين وليس حزباً»، فقد عُرف عنه منذ بداياته الوطنية والنضالية الأولى إسهاماته القوية في الدفاع عن الشعب ضد الاستعمار والسلطنات والمشيخات المفرطة في الإقطاعية، ومناداته بضرورة التحرير والتنوير، وقد ظلت تلك الميزة تسري في دمائه حتى اليوم وهي ميزة استمدها من عنفوان ونقاء ثورتي 26 سبتمبر و14 أكتوبر، حتى أنه تحول إلى أيقونة للنضال والوطنية والحرية، ويقول في ذلك الناشط عبدالجبار الشغدري: «القائد الفدائي مقبل عنوان سفر مستمر من النضال الوطني المنتمي إلى القيم الرفيعة لأهداف ثورتي سبتمبر وأكتوبر والاستقلال الوطني وتجربة بناء الدولة الوطنية بالجنوب والوحدة المغدورة».
وبرغم قسوة الظروف التي مر بها البلد، ومر بها مقبل فإنه لم يكن ذا نزعة دموية، بل كان ذا نزعة وطنية رفيعة، كان المثقف المتزن والإنسان النبيل الذي يقارع بنبله وقيمه ومبادئه كل أشكال العنف والتمييز والتهميش والتمييع للقضايا الوطنية، وظل ينادي بضرورة إيقاف الحروب والتوجه إلى تنمية البلد والاهتمام بالأولويات القصوى، وهو ما جعله، كما يؤكد الشغدري، «عنوان نضالٍ لوطن خالٍ من الحروب وغَلبة القوة وتجار الحروب ومغتصبي الدولة، وخالٍ من مذاهب النهب والفيد السياسي والقبلي والديني ومن جغرافيا الجينات السلالية والمناطقية وحاملاً لقضية ومشروع بناء دولة المواطنة المتساوية التي تستوعب كل اليمنيين دون تمييز».
إن ما يتعرض له مقبل الآن من تهميش وعدم رعاية من قبل الجهات المعنية لهو امتداد لما تعرض له طيلة مسيرته النضالية بعد صيف 94، من قبل أطراف الحرب، وهو رد فعل طبيعي من قبل النافذين الذين تضرروا من مصداقية الرجل وجرأته التي أوقفت مشاريعهم الصغيرة وقضت عليها، وهو إقصاء –مع ذلك- لم يستطع أن ينال من إرث الرجل ورصيده النضالي بقدر ما أشعل حناجر الناس سخطاً وغضباً على كل من لم يلتفت إليه.. إنه مقبل، صبرنا وحلمنا وأبجدية الرفض بداخلنا.
العربي