مقالة تحليلية | هل تخلّت الإمارات عن الجنوب؟
الجنوب اليوم
على كل حال، هذه القرارات لم تكن مفاجئة لأحد، على الأقل للمتابعين لتطورات الأحداث في اليمن والمنطقة عن كثب خلال الأشهر الأخيرة. فهي قرارات شاهدنا مثلما تماماً قبل أشهر، حين تمت إقالة محافظ عدن، اللواء عيدروس الزبيدي، وعدد من الرموز الجنوبية المقربة من الحراك الجنوبي، واستبدالها برموز لا تمت بصلة للمشروع الجنوبي التحرري الحراكي المقاومي، غير أن المفاجئ اليوم في هذه القرارات هو الموقف الإماراتي الصامت حيالها، والذي يشي بأنه علامة رضاء وقبول. وهذا الرضاء، إن صح فعلاً، فهو لا يمكن تفسيره إلا على أنه يأتي ضمن ترتيبات سياسية وعسكرية، وتقاسم مصالح اقتصادية، ومناطق نفوذ جغرافية بين السعودية والإماراتي في اليمن، وفي الجنوب على وجه التحديد.
سيكون هذا الجنوب هو الضحية على كل حال، فهو الجدار الأقصر أمام الجميع، بصرف النظر عن طبيعة تلك التسوية التي تلوح مؤشراتها بوضوح في الأفق، والتي منها: عودة المهندس خالد بحاح المفاجئة وتصريحاته الجريئة، وقرارات إخراج عدد من القوات إلى خارج عدن، وهي أيضاً قرارات يكتنفها الغموض ويلفها الشك بشأن مصداقيتها والنوايا خلفها وتوقيتها برغم بريقها الظاهر. لا يمكن عزل هذه المؤشرات كلها عن القرارات الجمهورية الأخيرة، القرارات التي، كما أسلفنا، تُعدّ سعودية المنشأ والغرض بنكهة إماراتية وبقلم يمني بائس، ليس أكثر من «شاهد ما شافش حاجة».
إشتداد الأزمة الخليجية (القطرية السعودية الإماراتية) ألقى بظلاله الكئيبة على اليمن وعلى الجنوب بالذات، ناهيك عن دول الخليج نفسها. وهي الأزمة التي تتدحرج ككرة ثلج كبيرة على رؤوس الخليجيين جميعهم، ومنهم السعوديون والإماراتيون خصوصاً، بعدما استطاعت الدوحة الإفلات من الربقة السعودية الإماراتية المصرية، التي كانت قد أُحكمت على عنق هذه الدولة الثرية في الأيام الأولى للأزمة، قبل أن تتدخل عوامل حاسمة لمصلحة الأخيرة، مثل صفقة طائرات «F 15» بقيمة 21 مليار دولار من واشنطن، وتدفق القوة العسكرية التركية التي تصل قطر تباعاً، وهذه الخطوة بالذات لم تكن واردة على بال أصحاب دوائر القرار السياسي السعودي والإماراتي، فضلاً عن المساندة الإيرانية للدوحة، وفتح إيران أجواءها أمام الطيران القطري، والجسر الجوي والبحري التجاري بين الدولتين، وعزوف معظم الدول عن مقاطعة الدوحة برغم الضغوط السعودية الكبيرة. كل هذه العوامل عقّدت الأمور إلى أبعد مدى بوجه الرياض وأبوظبي، وكان لا بد من اتخاذ إجراءات أخرى، حتى وإن كانت عبارة عن تنازلات مريرة وتضحية بحلفاء.
وبالتالي، فليس من المستبعد أن تقدِم الإمارات (إن لم تكن قد أقدمت أصلاً) على خطوة تطال الوجود والنفوذ القطري، وتشفي غليلها من الحذلقة القطرية في أي مكان بالمنطقة، وفي اليمن بالذات، وفي الجنوب على وجه الخصوص، حيث نفوذها (الإمارات) وتواجدها العسكري والمالي. فالإمارات ترى، لتحقيق هذه الخطوة (الضغط على قطر)، أنه لا بد من انحناءة للمطالب السعودية التي لا تزال مصالحها مرتبطة بحلفاء قطر في اليمن (حزب الإصلاح الإخواني)، أو قل لا بد من عملية مقايضة بينهما، ولو على طريقة البيع والشراء (سلّم واستلم)، والجنوب بالتأكيد سيكون هو الثمن الذي ستقدمه الإمارات لقاء احتواء الحلفاء القطريين في اليمن. فالسعودية بحاجة إلى تطمين حلفائها الشماليين ولو مؤقتاً في ما يخصّ بقاء الوحدة اليمينة، وتمرير مشروع الستة أقاليم. فالاعتقاد السائد يشير إلى هكذا سيناريو، إلى أن يثبت العكس.
إذ ليس الصمت الإماراتي على هذه القرارات التي تستهدف الجنوبيين (حلفاء الإمارات الأساسيين)، فقط، هو الدليل على أن أبوظبي تحت تأثير «الفوبيا الإخوانية» المزمنة، والتي تضاعفت حالتها مؤخراً، قد عَقَدت العزم على بيع الجنوبي بأبخس الأثمان في بازار السياسة الإقليمية، وفي سوق نخاسة الأذناب والنخب السياسية البليدة، كنخب الجنوب اليمني التي ربطت مصيرها ومستقبل وطنها وشعبها بالخارج بشكل مذل ينم عن الشعور بالدونية والخنوع بل قل الإرتزاق، وأدارت ظهرها بشكل فج وصفق للإرادة والتضحيات الشعبية الهائلة، وتجاهلت عمداً مكامن قوة
شعوبها وعزتها وإباءها… نخبٌ عشِيت أعينها أمام بريق المصالح الشخصية، وباتت لا تفرق بين من يخدمها ومن يستخدمها.