كلام سياسي | الجنوب بين أنيابٍ ومخالب
الجنوب اليوم | صلاح السقلدي
للتذكير… في ذروة القمع الذي كان تتعرض فيه قوى الثورة الجنوبية ونشطاؤها بالسنين الماضية منذ انطلاقتها، وفي غمرة التباينات، السياسية الحادة، بل وفي قمة التنافس على الزعامات والتسابق على الظهور الإعلامي المحموم الذي اعترى مسيرة الثورة، إلا أن ذلك التباين على علاته ظل محصوراً في إطار دوائره السياسية ومحكوماً بخط أحمر أسمه الاحتفاظ بالهدف الاستراتيجي الأسمى، ولم يصل الاختلاف حينها إلى درجة الخلاف، ناهيك عن عدم انحداره إلى تشاحنات على ساحة أو شارع لإقامة فيها فعالية عمرها بضع ساعات، كما هو حاصل اليوم للأسف، وهذا يعني بالضرورة أن هذه القوى الجنوبية اليوم لم تعد هي ذاتها في التفكير، ولا في الحرص على المحافظة على وحدة الصف عند مستوى معين من التباينات، ولا في ولائها لجوهر القضية والتمسّك بها. فقد عبثت قوى كثيرة بهذه القوى وبهذه الثورة، وبات المال يشكل «إيدز» هذه الثورة وينخرها بالعظم واللحم.
فسلطة الرئيس هادي استطاعت أن تخترق الثورة الجنوبية اختراقاً في الصميم، وتحرف مسارها إلى حدٍ كبير من خلال النفوذ الى العمق بواسطة حصان طروادة (جنوبية المخترقين الذي ينتمون لكل محافظات الجنوب دون استثناء) وتقمّصهم بالرداء الجنوبي، وهم في ذات الوقت يعملون بدأبٍ لجر الجنوب إلى مسار سياسي لا يمت بصلة لتطلعات الغالبية العظمى منه، مسار يتم فيه فرض عليه حلول سياسية جاهزة فرضاَ بأسلوب البلطجة السياسية الفجة، والتي رفضها – المشاريع والحلول الجاهزة – الجنوب لخديعة قلبها ومُــكر قالبها، وعلى رأسها مشروع الأقاليم الستة الذي يقوده الرئيس هادي، والفئة الجنوبية النفعية المحيطة معه، باستماتة فظيعة. وصل الأمر بهادي إلى القول إنه سيقاتل كل من يعترض فرضها.
بالتوازي مع رغبة حزب «الإصلاح» بهذا المشروع الذي تم صياغته بعيداً عن الإرادة والمشاركة الجنوبية، والذي يهدف بالمقام الأول إلى شطر الجنوب إلى قسمين – إقليمين – وتذويبهما في مشروع الأقاليم الستة المزعوم، ليستهدف بالتالي فحوى الأزمة اليمنية، وليس الجنوبية فقط، من أساسها، وهي أزمة فشل وحدة سياسية بين دولتين على إثر غزو عسكري صريح، وحرف جهور هذه أي الأزمة أزمة سياسية محضة الى مجرد اشكالية حكم محلي يمكن تجاوزه بإعادة تقسيم إداري يأخذ له مسميات الأقاليم.
الجنوب اليوم في أخطر مرحلة يمر بها على الإطلاق، فقضيته باتت بأياد قوى محلية تحاول أن تحتويها بالمال، ووسيلتَـي الترغيب والترهيب، فضلاً عن مكيدة إذكاء جذوة الخلافات القديمة، في الوقت الذي تراجع فيه الصوت الجنوبي الصادق لنصرة هذه القضية إما خشية من القمع أو يأساً واستكانة.
يأتي هذا بالتوازي مع محاولات احتواء هذه القضية من قبل أطراف أقليمية معروفة، باتت منذ اليوم الأول لهذه الحرب تتخذ منها سلاحاً في خاصرتها، تشهره بوجه أية قوى تقف بوجهها، وبوجه تطلعاتها السياسية والاقتصادية المستقبلية بالجنوب وباليمن عموماً.
هذا علاوة على جعل الجنوب ساحة تصفية صراعات إقليمية تُـستخدم فيها أسلحة خطيرة للغاية، أخطرها السلاح المذهبي والفكري الذي أوكِلَ مهمته للجماعات المتطرفة كمصدات لقوى دينية سياسية أخرى، كحركة «الأخوان المسلمين» فرع اليمن. وخطورة هذا لا ينحصر فقط على تمزيق النسيج الاجتماعي بل تحويل الخلاف من سياسي وطني الى مذهبي وفكري، لم يكن للجنوب يوماً من الأيام أي خصومة مذهبية أو طائفية مع أحد، بل كان بوتقة واحدة انصهرت فيها كل الأفكار والمذاهب، فضلاً عن الأديان. وعدن عنوان لهذه الصفحة التاريخية العظيمة.
لم يعد المواطنون البسطاء يعون ما الذي يدور حولهم بالضبط. ففي الوقت الذي علّق فيه البعض منهم على دور «المجلس الانتقالي الجنوبي» المشكّــل حديثاً للقيام بمهمة لملمة الشتات الجنوبي للخروج من عنق الزجاجة الخانق، إلا أن تيبُّــس مفاصل هذا المجلس، وهو ما زال في خطواته الأولى، أدخَـلَ معه هذا المواطن، ناهيك عن قطاع واسع من النخب الجنوبية والمراقبين بالداخل والخارجي، في دائرة قاتمة من الحيرة والغموض والضبابية الكثيفة…
وعلى إثر ذلك تتزاحم بالأذهانِ العديد من الأسئلة المنطقية الباحثة عن إجابات، من قبيل:
– مَـــن الذي يكبح حركة هذا المجلس الذي تسانده الإمارات العربية المتحدة؟ وإن كانت هذه الأخيرة هي من وقف وراء تشكيله فمن هي القوى بالساجة التي بمقدورها أن تحد من نشاطه وتفرمل تقدمه في الوقت الذي للإمارات اليد الطولى بالجنوب؟
– لماذا تصمت الإمارات حيال وضع هذا المجلس وهو في هذا الوضع الخانق الذي تطبق عليه جهات بالشرعية من كل جانب إن كان ثمة جدية بتفعيل دوره؟ علاوة على السؤال الكبير: لماذا لم تعترف به الإمارات رسمية وتتاعمل معه ككيان سياسي جنوبي يمثل قطاع كبير من تطلعات الناس السياسية؟
– لماذا تفسح الإمارات الطريق أمام حكومة الشرعية تهيء لها الدروب باتجاه فرض وجودها على الأرض على حساب «المجلس الانتقالي» وعلى حساب «المقاومة الجنوبية» و«الثورة الجنوبية» ككل لتكريس مشروع دولة الأقاليم الستة في الوقت الذي تعلم أبو ظبي بأن القضية الجنوبي ما تزال تراوح مكانها دون تسوية سياسية وترفض معظم الجماهير الجنوبية أن تفرض عليها مشاريع قد تجاوزتها الحرب وتم صياغتها بغياب جنوبي كامل كمشروع الأقاليم الستة الذي يسوق له بن دغر وبرعاية إمارتية مـحيّــرة؟!
يأتي هذا الاستهداف للجنوب وقضيته الوطنية في الوقت الذي ما زال فيه الجسد الجنوبي ينزف بغزارة في جبهات قتال بالعمق الشمالي، لا ناقة للجنوب فيه ولا جمل… ففي منطقة المخا على الساحل التعزي الغربي جنوب البحر الأحمر، لا يمر يوم دون أن يُــخّطُ باللون الأحمر، وتكتظ فيه المشافي بالجرحى والجثث.
وفي العمق الشمالي، بالجوف والبقع، لا يقل الوضع بؤساً وألماً عن الساحل الغربي بالمخا، فالحال من بعضه. فلا يعلم المقتول عن أي قضية يقاتل، أي يقاتل «مجوساً روافض كفرة» كما يصوّر له إعلام الإسلام السياسي؟ أم يقاتل إلى جانب دول تحكمها »ممالك ملكيين إنقلابيين إماميين»؟ أم يقاتل «متمردين» لمصلحة سلطة يهيمن عليها حزب «الإصلاح» لم يعد هذا التحالف (السعودية والامارات) يثق بها، بل لم يعد هذا التحالف، أو على الأقل الإمارات، يسعى لإعادتها إلى كرسي الحكم بصنعاء، تخوّفاً من انتمائها وبُعدها الفكري «الإخواني» الذي يشكل للإمارات هاجساً مزعجاً منذ سنين؟!
خلاصة القول… الجنوب اليوم بكل قواه بات مشتتاً ما بين تابع لجهة إقليمية ومحلية، ومحاصر من قبل قوى جنوبية نفعية لئيمة باسم «مقاومة الريال والدرهم»، وضحية لنخبة مرتعشة مشوّشة التفكير والعمل. وعلى ما تقدّم، نكرر صرختنا الجنوبية المخلصة لكل الشرفاء بالتصدي بكل المتاح لهذا الاستهداف قبل أن يبلعهم غول المصالح الإقليمية، ويفترسهم سرطان الارتزاق الداخلي، وتنهشهم أنياب الضباع ومخالب السباع!
المصدر العربي