50 عاماً من الإستقلال ،،،
الجنوب اليوم
كتب | هيلين لاكنر
قبل خمسين عاماً، وبالتحديد في 30 تشرين الثاني/نوفمبر 1967، ولدت الدولة الاشتراكية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي “جمهورية جنوب اليمن الشعبية”، والتي أطلق عليها اسم جديد في عام 1970 حين أصبحت “جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية”. ولدت الجمهورية الاشتراكية بعد أربع سنوات من الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني. كانت بريطانيا تحكم، بصفة “غير مباشرة”، محميات ريفية في شرق وجنوب عدن، حيث كان تدخّلها قاصراً على “المشورة السياسية” وتزويد زعماء القبائل بالسيولة والأسلحة. غير أنها كانت احتفظت بحكم عدن، التي تُعدُّ دولة ــ مدينة، بصفة مباشرة. كان اقتصاد هذه الأخيرة يعتمد على مينائها الدولي المهم والمطل على مداخل البحر الأحمر وقناة السويس، بدرجة أولى، وعلى موقعها كأكبر قاعدة بحريّة بريطانية شرق السويس، بدرجة ثانية.
لم تقتصر حرب التحرير على المواجهة بين البريطانيين والقوميين الساعين إلى الاستقلال، إنّما شكّلت أيضاً مجالاً لصراع عسكري بين حركتي التحرير المتنافستين وهما الجبهة القومية للتحرير وجبهة تحرير جنوب اليمن المحتل. كانت للأولى قاعدة ريفية بالأساس، وكانت مكوّنة من الفرع اليمني لحركة القوميين العرب في تحالف مع قبائل محلية. وشملت قيادتها أعضاء من جميع هذه المنظمات والذين برزت أسماء بعض منهم في السنوات اللاحقة: سالم ربيع علي المعروف باسم “سالمين” (1935-1978)، عبد الفتاح إسماعيل (1939-1986)، علي ناصر محمد (1939-) وعلي سالم البيض (1939-)، وقد تولّى كلّ من هؤلاء قيادة المنظمة، ثم الحزب الاشتراكي اليمني الذي ورثها. ثمّ ترأّس كل منهم الدولة نفسها لفترات مختلفة، وتورطوا جميعاً في الصراعات الدامية التي مزّقتها.
في المقابل، فإنّ جذور جبهة تحرير جنوب اليمن المحتلّ تعود إلى الحزب الاشتراكي الشعبي. وقد تمركز نشاطها بالأساس في عدن معتمدًا على قوّة الاتحادات العمّالية هناك، ومتبنياً إيديولوجيا أقرب إلى اشتراكية حزب العمال البريطاني والاشتراكية على الطريقة الناصرية. من أبرز زعماء الجبهة الراحل عبد الله الأصنج (1934-2014) وعبد الرحمن الجفري (1943-) الذي لا يزال نشطاً في المطالبات بانفصال جنوب اليمن إلى اليوم.
أفول الناصرية
وبفضل تمتعها بدعم شعبي أقوى وقوات عسكرية في المناطق الريفية، نجحت الجبهة القومية للتحرير في الانتصار على جبهة تحرير جنوب اليمن المحتلّ في عدن، وسيطرت خلال عام 1967 على جميع المناطق النائية التي غابت عنها هذه الأخيرة إلى حدّ بعيد. وقد اعترفت بها بريطانيا متأخراً على أنّها حركة التحرير الرئيسية وسلّمتها رموز السلطة بعد مفاوضات الساعة الأخيرة السريعة في جنيف.
لقد كان هذا الانتصار نقطة تحوّل لدى الحركات القوميّة العربيّة وفي إيديولوجيتها: ففي وقت سابق من تلك السنة مثّلت هزيمة مصر وعدد من الدول العربية في حرب الأيام الستّ ضدّ إسرائيل نهاية شعبية الناصرية كإيديولوجيا اشتراكية قومية مناهضة للاستعمار، وهو وضع تأكّد في اليمن بعد انتصار الجبهة القومية للتحرير على خصمها الناصري، جبهة تحرير جنوب اليمن المحتلّ. وفي السنوات التالية، كانت الجبهة القومية للتحرير في طليعة تحوّل نحو اليسار شهدته أجزاء هامة من حركة القوميين العرب في المنطقة، مثلما حدث بظهور الجبهتين الشعبية والديموقراطية لتحرير فلسطين، وتحوّل جبهة تحرير ظفار إلى الجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي المحتلّ، وكذا ظهور عدّة منظمات أصغر في مختلف الدول العربية. وقد اتفقت جميع هذه الحركات على أنّ هزيمة يونيو/حزيران 1967 كانت بسبب اشتراكية “البورجوازية الصغيرة” التي روّج لها عبد الناصر، وعلى أنّ حركات وتحليلات أكثر راديكالية في نزوعها الماركسي هي وحدها القادرة على هزم الصهيونية وإسقاط الأنظمة الملكية الاستبدادية في المنطقة، وعلى تحسين ظروف معيشة الفقراء.
دولة ثورية
يجدر التذكير هنا بأنّ ذلك الزمن كان مفعماً بالحماس الثوري في الغرب أيضًا، وسط دعم قوي للجبهة القومية لتحرير فييتنام، ونضالات أخرى مناهضة للاستعمار في أفريقيا وآسيا، وأيضاً، وبطبيعة الحال، أحداث أيار/مايو 1968 في فرنسا نفسها. خلال العقد التالي، تركّزت النقاشات يساراً حول الاختلافات الإيديولوجية داخل العقيدة الماركسية، كما انطبع عليها أثر الصراع الصيني ــ السوفياتي النشط في ذلك الحين، بتوجهات تمتدّ من الماوية والتروتسكية إلى اشتراكية سوفياتية أكثر تقليدية. وقد تنامت هذه الاختلافات المريرة رغم وقوع كل هذه الحركات تحت الهجوم المباشر من قبل الأنظمة التي كانت تسعى إلى الإطاحة بها، وهي أنظمة كانت مدعومة، بدرجات مختلفة، من الغرب. كانت الحرب الباردة حينها تدمغ النضال الإيديولوجي والسياسي والاقتصادي بأبعاد دولية.
كانت جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية الدولة العربية الوحيدة التي تمكّنت فيها إحدى هذه الحركات من الوصول إلى السلطة، حيث تقمّصت دورها الثوري إلى أبعد مدى، فمدّت يد الدعم للمنظمات الفلسطينية الأكثر راديكالية وللجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي المحتلّ بالإضافة إلى حركات ثورية إقليمية أخرى في الجزيرة العربية وخارجها. وقد كفل هذا التوجّه لها أعداء مباشرين من الحكّام السابقين المنفيين في السعودية وعُمان وحتّى في الجمهورية العربية اليمنية، والذين قاموا، بدعم من مضيفيهم، بعمليّات توغّل عسكرية أجبرت النظام على التركيز على المصاريف العسكرية والدفاعية على حساب التنمية. كما كان لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية مكانتها في الحرب الباردة التي سمحت بحصولها على الدعم العسكري والاقتصادي من دول العالم الإشتراكي، من الاتحاد السوفياتي إلى كوبا، ولاحقاً من نظام منغستو في إيثيوبيا. كان الغرب يرى في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية حينها قاعدة أماميّة للمعسكر الاشتراكي في العالم العربي.
وتُفسّر المواقف الثورية للجبهة القومية للتحرير نبذها ورفضها من قبل المَلَكيّات المطلقة في المنطقة والتي شعرت بالتهديد من ذلك الحماس الثوري. إذ كان هؤلاء ينظرون إلى الجبهة على أنّها محفّز للحركات الثوريّة في دولهم، في وقت كانت فيه الإيديولوجيات الراديكالية، على الصعيد الدولي، في صعود. وبالإضافة للتدمير العسكري والعزل الديبلوماسي والسياسي والاقتصادي لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، قامت هذه الدول، وخاصة السعودية، بالردّ من خلال إطلاق السلفية العلمية في أرجاء العالم الإسلامي، وهو أمر ساهم فيه بصفة كبيرة الارتفاع الكبير لموارد النفط بعد عام 1973. وقد بقي هذا الاتجاه إلى حدّ كبير موضع تجاهل اليسار الذي كان غارقاً بعمق في صراعاته الداخلية الإيديولوجية وغير الإيديولوجية، فاستغرق، لهذا السبب، عشرات السنين حتى استوعب أن الإسلام الراديكالي كان آخذاً في الظهور كإيديولوجيا شعبية كبرى منافسة له، لاسيما بين الشباب.
حقوق متساوية للنساء
أمّا اقتصادياً، فإنّ النظام الجديد واجه ظروفاً صعبة جدّاً وكان بقاؤه محلّ شكّ منذ البداية: انهار اقتصاد عدن مع إغلاق قناة السويس بعد هزيمة الدول العربية في حزيران 1967 ورحيل البريطانيين وقاعدتهم، الأمر الذي تلاه رحيل القطاع الخاص بأصوله المالية عن عدن. وبينما تمتعت المناطق النائية بفرص محدودة مثل الصيد في بحر العرب العامر بالأسماك وشيء من الزراعة، لم يتم العثور على أي أثر للنفط في هذا البلد. رغم هذا ورغم المحيط العدائي، قام نظام جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية بإدخال سياسات اجتماعية واقتصادية مهمّة، فقد وفّر التعليم للجميع والخدمات الصحية المجانية ومنح المرأة المساواة الرسمية وعارض القبائلية التي كانت تعتبر آلية للتعبئة السياسية المنافسة. وبدعم مالي من المعسكر الشرقي، ومن بعض المؤسسات المالية الدولية، والعربية، من الكويت أساسا، نُفّذت هذه السياسات الاجتماعية والاقتصادية تدريجياً خلال السبيعينيات والثمانينيات. وكنتيجة لذلك، كان اليمنيون العاديون، غير المنخرطين في النشاط السياسي، قد حقّقوا مستويات معيشية معقولة وتقلّصت الفجوة بين المناطق الحضرية والمناطق الريفية من حيث ظروف العيش، بصورة واضحة. فقد عمل النظام، الذي كان يضم عدداً من ذوي الأصول الريفية، على ضمان عدم إهمال الريف رغم ضعف الكثافة السكانية فيه ومساحته الشاسعة. وقد كانت الدخول، على تواضعها، كافية لضمان أساسيات الحياة سواء من خلال الزراعة أو الصيد البحري أو الخدمات.
للمفارقة، لم يكن الانخراط في السياسة أمرا مأمون العواقب على المدى الطويل. فلم تنل المعاملة السيئة فقط تلك القلّة القليلة الباقية من قيادات زمن الاحتلال البريطاني أو من جبهة تحرير جنوب اليمن المحتل، بل إنّ الجبهة القومية للتحرير ذاتها كانت تعاني تمزّقا داخليا. فكان الصراع الصيني ــ السوفياتي جزءاً من خلفية الصراعات الداخلية في الجبهة القومية للتحرير إذ حوّلت نفسها من جبهة قوميّة إلى حزب اشتراكي أكثر تقليدية. وهُزم التيار الأكثر ثورية بقيادة السالمين على يد التيار البيروقراطي ذي التوجه السوفياتي بقيادة عبد الفتاح اسماعيل. وباستيعابها للمنظمات الشيوعية والبعثية المحلية، تحوّلت الجبهة الوطنية للتحرير إلى الحزب الاشتراكي اليمني في عام 1978 بعد معاناتها من عدد من محاولات الانقلاب والتطهير وصراعات داخلية أخرى طوال العقد السابق. كان أكثر تلك الصراعات شراسة الإطاحة بالسالمين، وهو العضو البارز في اليسار “الماوي” الأكثر راديكالية ضمن ثالوث رئاسة البلاد منذ حزيران/يونيو 1969.
مواجهات دامية داخل الحزب
تواصل الصراع داخل الحزب الاشتراكي اليمني خلال سنوات حياته الثلاث والعشرين: وحتى اليوم، ليس من الواضح إلى أي مدى كانت هذه الخلافات شخصية أو إقليمية أو إيديولوجية. الواضح، في المقابل، هو أنّ مواقف النظام قد أصبحت، بشكل ملحوظ، أكثر ليونة خلال هذين العقدين. لم تتكرر أحداث راديكالية منذ “مظاهرات الأيام السبع” عام 1972 التي طالب المتظاهرون خلالها بخفض الأجور لدعم الدولة أمام صعوباتها المالية، في لحظة قُرئت على أنّها أوج تأثير السالمين. كما أنّ دعم المجموعات الثورية الدولية المتطرفة في الشرق الأوسط وغيره قد تضاءل حتى توقّف تماما أواخر السبعينيات. وفي الثمانينيات تمّ إنشاء علاقات ديبلوماسية مع السعودية وعُمان فانتهت الحروب الإعلامية وتلقّى النظام بعض الدعم المالي. ولم يكن بحثه عن استثمارات اقتصادية من القطاع الخاص، من المهاجرين ومن مصادر أجنبية أخرى، ناجحاً سوى جزئياً. وقد توجّت الصراعات الداخلية بما عُرف مجازياً بـ“أحداث” 13 كانون الثاني/يناير1986 عندما اغتيل عبد الفتاح اسماعيل وأغلب قياديي الثورة “التاريخيين” الباقين خلال اجتماع للمكتب السياسي بأمر من علي ناصر محمد الذي كان ينظر إليه كقائد أكثر براغماتية منذ قام بنفي سلفه عام 1980.
قوّضت هذه الأحداث النظام، حيث تضاءلت مصداقيته أمام الشعب: كان الصراع يُرى على أنّه مفتقد لأي مبرر إيديولوجي أو مبدئي وعلى أنّه مجرّد تنازع للسلطة. وفي وقت كان فيه الاتحاد السوفياتي ذاته يشهد تغييرات هائلة من شأنها أن تؤدي إلى زواله، أصبح نظام ما بعد 1986 مشابهاً للديموقراطيات الغربية، لكن بعد فوات الأوان. وقد قاد اكتشاف النفط على الحدود مع الجمهورية العربية اليمنية، إضافة إلى أزمة مماثلة في نظام هذه الأخيرة، إلى خيارين: إمّا الحرب أو الوحدة. كانت الوحدة اليمنية الشعار الشعبي الأبرز خلال عهد جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية. وكان إرساؤها بحثٍّ من علي عبد الله صالح، رئيس الجمهورية العربية اليمنية في ذلك الحين، والزعيم الرديف للحزب الاشتراكي اليمني علي سالم البيض، العمل الأكثر شعبية الذي قام به كلّ من الزعيمين. في 22 أيار/مايو 1990، وبعد 23 سنة، لم يعد لجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية وجوداً بأن أصبحت جزءاً من الجمهورية اليمنية.
وكما يتضح اليوم بظهور حركة انفصالية تتزايد شراستها بمرور الوقت في المجال الجغرافي السابق لليمن الديموقراطي، فإنّ الوحدة كانت عملية معقّدة وغير مرضيّة، وستكون موضع نقاش في مكان آخر. لكنّ أسماء الزعماء الباقين من جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية لا تزال بارزة ضمن النقاش السياسي في اليمن، رغم كبر سنّهم ورغم حقيقة أنّ قلّة منهم، إن وجدت، لا تطالب بأي شكل من أشكال الولاء إلى الاشتراكية.
ملاحظة هييلين لاكنر ..
باحثة مستقلة أقامت في اليمن أكثر من خمسة عشر عاما. قضت خمسة منها (1977-1982) في جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية. صدر لها [بالإنجليزية] مؤخرا كتاب: اليمن في أزمة – وحكم الفرد والنيوليبرالية وتحلل الدولة، عن (دار الساقي، 2017).